الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله تعالى: {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] أي: بين الإسراف والتقتير {قَوَامًا} [الفرقان: 67] يعني: وسطًا أي: أن الإنفاق وسط بين طرفين، وقوام الشيء: ما به يقوم، والحياة كلها تقوم على عملية التوسُّط بين الإسراف والتقتير.وأذكر ونحن تلاميذ كانوا يُعلِّموننا نظرية الروافع، وكيف نُوسِّط مركزًا على عصا من الخشب، بحيث يتساوى الذراعان، ويكونان سواء، لا تميل إحداهما بالأخرى، وإذا أرادتْ إحداهما أن تميل قاومتْها الأخرى، كأنها تقول لها: نحن هنا. فإذا ما علقتَ ثِقَلًا بأحد الذراعين لزمك أن تطيل الأخرى لتقاوم هذا الثقل.ويروي أن عبد الملك بن مروان لما أراد أن يُزوِّج ابنته فاطمة من عمر بن عبد العزيز اختبره بهذا السؤال ليعرف ميزانه في الحياة: يا عمر، ما نفقتك؟ قال: يا أمير المؤمنين، نفقتي حسنة بين سيئتين، ثم تلا هذه الآية: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].فعلم الخليفة أن زوج ابنته يسير سَيْرًا يضمن له ولزوجته مُقوّمات الحياة، ويضمن كذلك المقومات العليا للنفس وللمجتمع.وسبق أن ذكرنا أن الإنسان الذي ينفق كل دَخْله لا يستطيع أن يرتقي بحياته وحياة أولاده؛ لأنه أسرف في الإنفاق، ولم يدخر شيئًا ليبني مثلًا بيتًا، أو يشتري سيارة. إلخ.ومصيبة المجتمع أعظم في حال التقتير، فمصلحة المجتمع أنْ تُنفق، وأن تدخر، كما قال سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29].وهكذا جعل الله لنا ميزانًا بين الإسراف والتقتير؛ ذلك لأن المال قِوَام الحياة، والذي يُقتِّر يُقتِّر على نفسه وعلى الناس، فليست له مطلوبات يشتريها، ويشارك بها في حركة الحياة، وينتفع بها غيره، فهذه السلع وهذه الصناعات وهؤلاء العمال، وأهل الحِرَف من أين يرتزقون إذن وليس هناك استهلاك ورواج لسلعهم؟ لا شَكَّ أن التقتير يُحدِث كسادًا، ويُحدِث بطالة، وهما من أشد الأمراض فتكًا بالمجتمع.ولو نظرتَ إلى رغيف العيش، وهو أبسط ضروريات الحياة، كم وراءه من عمال وصُنَّاع وزُرَّاع ومهندسين ومطاحن ومخازن ومصانع وأفران، وهَبْ أنك أحجمت مثلًا عنه، ماذا يحدث؟إذن: ربك يريدك أن تنفق شيئًا، وتدخر شيئًا يتيح لك تحقيق ارتقاءات حياتك وطموحاتها؛ لذلك خُتِمَتْ الآية السابقة بقوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} [الإسراء: 29].ملومَ النفس لما بددتَ من أموال لم ينتفع بها عيالك، ومحسورًا حينما ترى غيرك ارتقى في حياته وأنت لم تفعل شيئًا. إذن: فالإنسان ملومٌ إنْ أسرف، محسورٌ إنْ قتّر، والقوام في التوسُّط بين الأمرين، وبالحسنة بين السيئتين، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ولذلك قالوا: خير الأمور الوسط. اهـ.
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}.لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار، وفضائح سيرتهم، فقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ} إن عبدوه {وَلاَ يَضُرُّهُمْ} إن تركوه {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ ظَهِيرًا} الظهير المظاهر أي: المعاون على ربه بالشرك والعداوة، والمظاهرة على الربّ هي المظاهرة على رسوله، أو على دينه.قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان، ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان.وقال أبو عبيدة: المعنى: وكان الكافر على ربه هينًا ذليلًا، من قول العرب ظهرت به أي: جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه، ومنه قوله: {واتخذتموه وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] أي: هينًا، ومنه أيضًا قول الفرزدق:وقيل: إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده، وهو الصنم قويًا غالبًا يعمل به ما يشاء، لأن الجماد لا قدرة له على دفع ونفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعًا كقوله: {وَالْمَلاَئِكَة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، والمعنى: أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على رسول الله، أو على دين، والمراد بالكافر هنا الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر معين كما قيل: إنه أبو جهل.{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا} أي: مبشرًا للمؤمنين بالجنة، ومنذرًا للكافرين بالنار.{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} أي: قل لهم يا محمد: ما أسألكم على القرآن من أجر، أو على تبليغ الرسالة المدلول عليه بالإرسال، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلًا} منقطع أي: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا فليفعل، وقيل: هو متصل.والمعنى: إلاّ من شاء أن يتقرّب إليه سبحانه بالطاعة، وصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الحصول.ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله، وأمره أن لا يطلب منهم أجرًا ألبتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضارّ، وجلب المنافع، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ} وخصّ صفة الحياة إشارة إلى أن الحيّ هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلاّ لله سبحانه دون الأحياء المنقطعة حياتهم، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم، والتوكل: اعتماد العبد على الله في كلّ الأمور {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} أي: نزّهه عن صفات النقصان، وقيل: معنى {سبح} صلّ، والصلاة تسمى تسبيحًا {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} أي: حسبك، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله ربًا، والخبير: المطلع على الأمور بحيث لا يخفى عليه منها شيء، ثم زاد في المبالغة، فقال: {الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قد تقدّم تفسير هذا في الأعراف، والموصول في محل جرّ على أنه صفة للحيّ، وقال: {بينهما}، ولم يقل: بينهنّ؛ لأنه أراد النوعين، كما قال القطامي: فإن قيل: يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات، والأرض كما تفيده ثم، فيقال: إن كلمة ثم لم تدخل على خلق العرش بل على رفعه على السموات، والأرض، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو صفة أخرى للحيّ، وقد قرأه الجمهور بالرفع، وقيل: يجوز أن يكون بدلًا من الضمير في {استوى}، أو يكون مبتدأ وخبره الجملة أي: فاسأل على رأي الأخفش، كما في قول الشاعر:وقائلة خولان فانكح فتاتهم وقرأ زيد بن علي: {الرحمن} بالجرّ على أنه نعت للحيّ، أو للموصول {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش.والمعنى: فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالًا من هذه الأمور.وقال الزجاج والأخفش: الباء بمعنى عن أي: فاسأل عنه، كقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] وقول عنترة بن شداد: وقال علقمة بن عبده: والمراد بالخبير: الله سبحانه؛ لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلاّ هو، ومن هذا قول العرب: لو لقيت فلانًا للقيك به الأسد أي: للقيك بلقائك إياه الأسد، فخبيرًا منتصب على المفعولية، أو على الحال المؤكدة، واستضعف الحالية أبو البقاء، فقال: يضعف أن يكون {خبيرًا} حالًا من فاعل اسأل، لأن الخبير لا يسأل إلاّ على جهة التوكيد، كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] قال: ويجوز أن يكون حالًا من الرحمن إذا رفعته باستوى.قال ابن جرير: يجوز أن تكون الباء في به زائدة.والمعنى: فاسأله حال كونه خبيرًا.وقيل: قوله: {به} يجري مجرى القسم كقوله: {واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ} [النساء: 1]، والوجه الأوّل أقرب هذه الوجوه.ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا معنى الرحمن فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة.قال الزجاج: الرحمن: اسم من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروا، فقالوا: وما الرحمن {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}، والاستفهام للإنكار أي: لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، ومن قرأ بالتحتية، فالمعنى: أنسجد لما يأمرنا محمد بالسجود له.وقد قرأ المدنيون، والبصريون: {لِمَا تَأْمُرُنَا} بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية.قال أبو عبيد: يعنون الرحمن.قال النحاس: وليس يجب أن يتأوّل على الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى: أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين.{وَزَادَهُمْ نُفُورًا} أي: زادهم الأمر بالسجود نفورًا عن الدين، وبعدًا عنه، وقيل: زادهم ذكر الرحمن تباعدًا من الإيمان، كذا قال مقاتل، والأوّل أولى.ثم ذكر سبحانه ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن، فقال: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} المراد بالبروج بروج النجوم أي: منازلها الإثنا عشر، وقيل: هي النجوم الكبار، والأوّل أولى.وسميت بروجًا، وهي القصور العالية؛ لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها، واشتقاق البرج من التبرج، وهو الظهور.{وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا} أي: شمسًا، ومثله قوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 16] قرأ الجمهور: {سراجًا} بالإفراد.وقرأ حمزة، والكسائي {سرجًا} بالجمع أي: النجوم العظام الوقادة، ورجح القراءة الأولى أبو عبيد.قال الزجاج: في تأويل قراءة حمزة والكسائي أراد الشمس والكواكب {وَقَمَرًا مُّنِيرًا} أي: ينير الأرض إذا طلع، وقرأ الأعمش {قمرًا} بضم القاف، وإسكان الميم، وهي قراءة ضعيفة شاذة.{وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} قال أبو عبيدة: الخلفة: كلّ شيء بعد شيء: الليل خلفة للنهار، والنهار خلفة لليل، لأن أحدهما يخلف الآخر، ويأتي بعده؛ ومنه خلفة النبات، وهو: ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى: قال الفراء في تفسير الآية: يقول: يذهب هذا، ويجيء هذا، وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض، وهذا أسود.وقيل: يتعاقبان في الضياء والظلام، والزيادة والنقصان.وقيل: هو من باب حذف المضاف أي: جعل الليل، والنهار ذوي خلفة أي: اختلاف {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} قرأ حمزة مخففًا، وقرأ الجمهور بالتشديد، فالقراءة الأولى من الذكر لله، والقراءة الثانية من التذكر له.وقرأ أبيّ بن كعب: {يتذكر}، ومعنى الآية: أن المتذكر المعتبر إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لابد في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أي: أراد أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة، والألطاف الكثيرة.قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان بمعنى واحد.قال الله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ} [الأعراف: 171]، وفي حرف عبد الله {ويذكروا ما فيه}.{وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، و{عباد الرحمن} مبتدأ وخبره الموصول مع صلته، والهون مصدر، وهو السكينة والوقار.
|